الجزيرة توك : لطالما كانت شخصية الجفرا غامضة مع أن الكثير من الشعراء والزجالون تغنوا بها في قصائدهم وأغانيهم. ما الذي عرف عنها وعن "راعي الجفرا" ؟
لم أعد أذكر متى سمعت بالجفرا للمرّة الأولى ، ولكن لا يغيب عن ذهني أنّ هذا الإسم جذبني ، ودعاني للبحث عماّ خلفه ، لأكتشف وأنا ما زلت فتى ، أنّه يعود لمعشوقة تغنّى بها حبيبها يوما ما قبل النكبة ، وسمعت حينها أقوالا متضاربة حول كونها ما زالت حيّة وتعيش في أحد مخيّمات بيروت ، كان هذا في بداية السبعينات في مخيّم اليرموك ، والأدهى أنّني عرفت خبرها اليقين قبل شهورٍ هنا في أسكوتلندا ، حيث شدّ انتباهي حديثٌ جانبي بين عجوزين فلسطينيين عن وفاة الجفرا
- أنو جفرا بتقصدي يا حجّة ؟؟
- أنو جفرا ، أي هو كم جفرا في بالدنيا ، فش غيرها ، جفرتنا ، بنت بلدنا الكويكات ، التي توفّيت من حوالي الشّهر
- بتعرفيها ؟؟ - قال بعرفها قال ، أنا اللّي بعرفها ، وما بنسى يوم هربت من جوزها وتخبّت عند دار عمّي
إذن ، هي وحدها الصدفة التي نبشت الموضوع من جديد ، كما أنّها هي التي قادت الشاعر عز الدين المناصرة إلى مقابلة أبو علي الجفرا قبل عقودٍ من الزمن.
يقول المناصرة في كتابه الجفرا والمحاورات ( قراءة في الشعر اللهجي بفلسطين الشمالية ) الصّادر في عمان 1993 تعود علاقتي بالاغنية الشعبية ( جفرا ويا هالربع ) الى سنوات الطفولة في قريتي في فلسطين حيث كنت اسمع هذا النوع من الأغاني في الخمسينات خلال الأعراس القروية او حفلات السّمر، وظلت هذه الأغنية ترنّ في أذني الى أن كتبت قصيدتي ( جفرا ) من نوع الشعر الحديث الفصيح عام 1975 وغنّاها ( مارسيل خليفة ) و( خالد الهبر ) ممّا ساعد على انتشارها كثيرا ، حتى أطلق إسم ( جفرا ) على عدد من المحلاّت والمؤسّسات في بعض الدول العربية ، كما أطلقه بعض الفلسطينيين على بناتهم .
وفي العام ( 1977 ) كنت في قرية ( قانا ) في مدينة صور حين سمعت ان المؤلف الأصلي للأغنية الشعبية ( الجفرا ) ما زال على قيد الحياة وأنه يعيش في مخيّم الرشيدية قرب صور ولكن تعذّر اللقاء به يومها ، حتى تحقّق أواخر شباط عام 1982 في مخيم عين الحلوة..
يومها قال لي أبو علي بلهجته الجليلية : ( أنا اوّل واحد ألفّ كتاباً عن الجفرا ، ولما طلّعت الجفرا كان عمري ( 25 ) سنة ، تسألني كيف وأنا أقول لك : أننّي بينما كنت غارقاً في منامي في ليلة من الليّالي رأيت فتاة جميلة يحملها شابان مرّا بها من أمامي فخلب جمالها الفتّان نظري وألهب عاطفتي التي أجبرتني على أن اكلّمها، وقبل أن أتكلّم بكلمة فتحت عيني فلم أجدها ، وتبدّل فرحي حزنا وكدراً على تلك الفتاة الجميلة وعلى ذلك نظمت شعراً ، وصرت أغنّي وأنا نايم غناني ما بعرفها، بعدين أقوم أكتبها – كنت مخلّص صف ثاني بس - وانشهرِتْ بفلسطين لمّن طبعت ( الجفرا ) في كتاب من 8 صفحات ، وأوّل مرة طبعت 4 آلاف كتاب ، وبعدين طبعت في عكّا 1500 كتاب ، ويا سيدي ملاَّ إنت ما دام إنك مصّر تعرف شعر المناسبة اللّي كتبت فيها الجفرا طيّب رح أقول لك : كنت أحب واحدة جفرا وكانت البيوت جنب بعضها البعض ، وكانت جفرا على الحيط ( السطح ) ، أخذت أنا محرمة فيها بقلاوة وكنافة ، وطلعت عندها عَ الحيط ، كانوا الألمان يعملوا غارات على الفينري بين عكّا وحيفا ، وأنا عند الجفرا على الحيط ضربت الطيارات.. مسكتني الجفرا من ملابسي وقالت لي: إذا شافك حدا أنا بصيح حرامي حرامي ).
وبعد إلحاح من الشاعر لمعرفة هويّتها ، وهل هي امرأة حقيقية ؟؟ يجيب أبو علي ( بنت كنت احبّها ) ، وعندما يسأله وهل هي من قرية كويكات ؟ يقول : (يمكن ، يجوز إنها من البلد ، انا بعرف إنّها إجتني بنت حلوة في الحلم وبس ) ، ثمّ يضيف : ( طيّب يا اخونا الشاعر اقول لك : أنا أوّل من ألّف الجفرا وبعدين وصلت للأردن وسوريا ولبنان ، طيّب بتعرف إنّو في بيت ليف قضاء بنت جبيل في لبنان كان في عيلتين ، عيلة مع الجفرا وعيلة ضد الجفرا.. وكان يصيربينهم إطلاق نار ، وكانوا يعزموني عالأفراح.. وكلّهم يقولوا : بدنا أبو الجفرا وكمان غنّيت في ترشيحا ودير القاسي ومجد الكروم والكابري وعكا وسحماتا.. حتى وصل صيتي لجبل نابلس وجبل الخليل ).
وهنا يؤكد المناصرة أنّ مبدع الجفرا الشاعر الشعبي أحمد عزيز أبدع ذلك الاثر الفني الغنائي إثر قصّة حب فزواج فطلاق لإبنة عمّه التي أطلق عليها رمز إسم جفرا . والجدير بالذكر أنّ أغاني الجفرا طُبعت مرّة أخرى تحت عنوان ( شرح ديوان الجفرا ) في مدينة عكّا عام 1999 ، كما أنّ الشاعر سعود الأسدي قام بنشر نصوصها الأصلية على حلقات في صحيفة الإتّحاد الحيفاوية عام 1987 .
الجزيرة توك : كيف تحولت اغاني الجفرا من مواضيع الغزل إلى أغاني وطنية تمجد الثوار والفدائيين؟
تعتبر أغنية الجفرا من أغاني الدبكات ، التي تتميّز بالجاذبية اللحنية والجمل القصيرة ، وتكرار اللازمة التي تشدّ المستمع وتثير الحماسة في الدبّيكة ، ويعيد العروضيّون لحنها إلى البحر المتوازي ، البسيط في الأصل ، المبني على شطر واحدٍ مقسومٍ إلى شطرين ، وعليه تؤدّى أغاني " يمّا مويل الهوى " و" هيهات يا بو الزّلف " ، وتفعيلاته هي : مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن ، ويُلحّن موسيقيا على مقام البيات .
ولقد تطوّرت هذه الأغنية كمثيلاتها من الأغاني الشعبية الفلسطينيّة وشهدت تحوّلا كبيرا في مواضيعها لأسباب عديدة ، أهمّها على الإطلاق التوازي مع تطوّر القضيّة الفلسطينيّة وتوالي ثوراتها قبل النكبة وبعدها ، ولم تعد الجفرا مجرّد إمراة جميلة ، بل أصبحت تمثل الأرض والبندقيّة والمقاومة والأمل بالتحرير والعودة ، فتحوّلت الأغنية من جفرا ويا هالرّبع إلى : ثورة ويا هالرّبع شعب وفدائيّهماشيين حتّى النصّر على الصهيونيّهوربّما كانت أغنية فرقة العاشقين هي الشّاهد الأبرز في هذا المجال ، ومنهاجفرا ويا هالرّبع ربع المراتينِشلاّل ينبع نبع دمّ الفلسطينيلمّا يغيب القمر تضوي شرايينيوتزخّ زخّ المطر عَ دروب الحريّةومنها أيضا ما قاله الشّاعر أبو عرب :جفرا ويا ها الرّبع وتقول استنّونيما بنسى قطاف الشّجر و قطاف زيتونيما بنسى منسف هلي وخبزات طابونيمهباج دقّ قهَوَه و سهرات ليليّهوأيضا ما غنّته فرقة الروابي في شريط عهد ووفاء من كلمات الشّاعرة مريم العمّوري:جفرا وهيه يالرّبع ويا مين يناديني فِدائي واسمي القسّام ودمّي فلسطيني من زولي هاب العدو مَ استرجى يلاقيـني عهدا ي بلادي مَ تهوني وقلبي لِك هديّةوما تزال الجفرا تلهم الشّعراء والزجّالين إلى يومنا هذا ، وتشهد منتديات الزجل الإنترنتية محاورات يوميّة بين محترفي وهواة الزجل في موضوع الجفرا الجزيرة توك : هل استطاعت الأغنية الشعبية والتراث الفلسطيني بشكل عام المحافظة على مكانته خصوصا مع تشرد معظم الفلسطينيين إلى المنافي ؟
لم يشهد التاريخ – ماضيه وحاضره – شعب أجبر على التشرّد في المنافي القريبة والبعيدة كالشعب الفلسطيني ، فالمليون الذين توزّعوا على مخيّمات اللجوء والمدن العربيّة القريبة بعد النكبة ، أضحوا اليوم أكثر من ستّة ملايين لاجئ مبعثرين على جهات العالم الأربع ، حتّى أنّه تكاد لا تخلو مدينة على الكرة الأرضيّة من فلسطيني يعيش فيها ، وكما حمل اللاجئون الأول مفاتيح بيوتهم في أيديهم ، فقد حملوا تراثهم في قلوبهم ، وأورثوه للأجيال المتعاقبة شفاهة وكتابة ، وبما أنّ التراث الشعبي هو الحافظ الأمين لذاكرة الشعوب ، وصلة الوصل بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، فقد تمّ إيلاء الجهد الأكبر لحفظ هذا التراث بكلّ مقومّاته ، الزيّ الشعبي وطقوس وعادات الأفراح والأتراح والمناسبات الأخرى والأغنيّات المتوارثة ، وتبدو الفرصة الآن أكبر لمتابعة ذلك ، فمع ثورة الإتصالات والإنترنت ، أصبح من السهل توثيق كل تلك الأمور ، وتبادل معلوماتها من جهة لأخرى. ويعدّ الزجل الشعبي عمودا أساسيا من أعمدة التراث التي يجب العمل على إبقائه حيّا ، والجاليات في الغرب تتشوّق دائما لسماعه ، والدليل هو توافد الكثيرين من المدن والبلدان المختلفة لحضور حفلات الفرق الإنشادية كالروابي والإعتصام ، وحفلات أبو عرب في بريطانيا وأوروبّا. ولكن ، هذا كلّه لا يكفي ، فيجب أن تتضافر جهود الجميع ، الأسرة أوّلا ، بتشجيع أبنائها على التمسّك بتراثهم ، ومن ثمّ المؤسسات الثقافية التي يجب أن تعنى بالتوثيق من جهة ، والإحياء من جهة أخرى ، بتنظيم أيّام مفتوحة لذلك التراث ، تلتقي فيها الأجيال المختلفة لتنهل من المنبع الأم. الجزيرة توك : سعدنا جدا بهذا اللقاء المفيد والممتع، شكرا جزيلا.
شكرا لكِ
مقطوعة عود "تراث فلسطيني" – لحن الجفرا. للعازف العراقي نصير شمة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
وصلة شعبية من ألبوم "عهد ووفاء" في رثاء الشيخ أحمد ياسين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
نهاية البداية
في سطوري الأخيرة.... وجب شكر الشاعر إياد حياتله الذي نبه لأهمية تدوين قصة الجفرا، وكانت تساؤلاته المتكررة عن حقيقة هذه الشخصية دافعا لبدء هذه الرحلة، كما وجب شكر الحاجة (هـ.ح) التي أسعدتني بسردها الممتع لأحداث هذه القصة، وشكر لجميع من ساهم ولو بحرف في كتابة هذا التحقيق...دمتم بخير، وتصبحون على وطن...حر! |