وقف
أمام منصة التكريم يتكئ على عصاه، وورقة الكلمة التي سيلقيها مطبق عليها
بيده كأنه يخشى أن تطير فتضيع الكلمات منه ، وقوفه كان بعد جهد جهيد لولا
مساعدة المنشط .ما وصل إليه في الأدب لم يكن بالإمكان تجاهله بعدما بلغت
روايته التي نال بها أكبر جائزة عربية مشارق الأرض ومغاربها وترجمت للغات
الدنيا، وبعد هذا العمر كان على الجميع أن يعطوه حقه.
حين وقف أطرقت القاعة بصمتها تنتظر دفء كلماته الجميلة، لكنه لم ينبس ببنت
شفه وظل مختفيا خلف نظارته السوداء، لا أحد يدري إلى أين يحلق بنظره ،
لحظات طويلة مرت ووجهه موجه نحو القاعة ولم يكن بالإمكان متابعة عينيه
ليعلم الناس إلى ماذا ينظر، لولا أن همس أحدهم في أذنه لربما بقي واجما
كتمثال يتعكز على عصا، تقدم بعض خطوات نحو الميكرفون ولكنه ظل صامتا .
كان يمكن لأي كان أن يرى فيه ارتعاشه خفيفة تهز جسده، وصفرة تمسح وجهه ،
وأي واحد في مكان الحاضرين تمنى لو كان بإمكانه اختراق نظراته السوداء
ليرى أين تحلق عينيه.سرعان ما أطرق برأسه الأرض واسترسل في الكلام دون أن
ينظر إلى الورقة التي كانت بيني يديه
- إن كنت وصلت اليوم إلى ما أنا عليه فهذا بفضلك أنت ، لقد اجتمعت كل
الأسباب عندك لتخلقي هذا الذي يراه الناس اليوم انتصارا، لم أكن أكتب لأحد
سواك ، منذ عشرون سنة وأنا أكتب ، وأعرف أنك تقرئين ما أكتب، و أعرف أيضا
أن الصدف التي فرقتنا لعقدين ستجمعنا لا محالة ليس بصدفة بل بتخطيط ربما
منك، ما أعجب له أن تعارفنا قبل عشرين عاما كان صدفة واليوم نلتقي بتخطيط
مرسوم.
كان صوته حانيا ثقيلا يشق النفس ، فالكلام لم يكن موجه سوى لامرأة ، أين هي بين الناس..؟
لا أحد يراها سواه ،الكل يلتفت والكل يهمس لكن لا أحد رآها .. بين كل جملة
وجملة يتوقف طويلا كأنه يلتقط أنفاس الذكريات المطوية في ذاكرته ككتاب
قديم لازلت صفحته مفتوحة لأمرأة كي تقرأها ..
هل كنت تعتقدين أني سعيد لما وصلت إليه . ؟ لا لست سعيد مرت حياتي بلا
معنى رغم كل ما قيل وكتب عني، مرت من دونك كما العتمة التي لا تنجلي، صرت
أكتب لأن الكتابة كانت اقصر طريق إليك ، كنت تقرئينني في كل صفحة من رواية
أو قصة، طيلة سنوات ولم أكن أقرأك في أي صفحة سوى في صفحة القلب العليل
الذي انغرست فيه كبذرة صغيرة نمت لتستحوذ على كل كياني العمر كله ، لم أكن
أعلم عنك شيء وكنت تعلمين عني كل شيء طيلة هذا العمر الذي وقفت أكتب فيه
لك وحدك ، لقد انتصرت علي لأنك تعلمين عني وتتقصين أخباري، وانهزمت ..
هزمني الإنتظار والذكريات ومشاعري التي لم تنتهي .. ولم يتوقف عن الكلام
حين بدأت مدامعه تنسكب من تحت سواد نظارته بلا انقطاع ، تنحدر من عينيه
وتخط خديه لتلتقي في اسفل ذقنه وتسقط أمام قدميه .. وواصل كلامه " كما قلت
لي ذات شوق انها ستنتهي بعد شهور ، وهاهو عامها الثالث بعد العشرين ولا
زالت تكبر، لم أكن أكتب طيلة العمر سوى لأحقق لحظة مثل هذه ، لو كان أي
واحد من الحضور مكاني لانتشى فرحا لا تسعه الأرض بما رحبت ولكن الحزن
انتشى بي ولا تسعه الدنيا، كل هذا الذي تحقق كان لأجل أن أراك اليوم
وأستطيع أن أرتاح الآن لأني رايتك وأطمئن لوصول الرسالة التي تاهت طيلة
عقدين ، الجائزة لا تعنيني و يؤسفني قول ذلك لـأني خسرت الجائزة الحقيقة
منك منذ قررت الرحيل بعيدا ، وبعدها لم تعد تهم أي جائزة.
توقف عن الكلام ووجه كلامه للجميع شاكرا ثم أردف قائلا : والآن علي أن
أنصرف ، قالها تلك الكلمات ولا أحد كان يدري هل كان يهذي أم يقصد بها شخصا
بعينه حجبته نظارته القاتمة السواد عن الناس ، وحين هم بالنزول حاول
المنشط مساعدته لكنه أشار له بيده أن لا يفعل فتراجع المنشط إلى الخلف
وعينيه تتبع العجوز الذي نزل الدرج بهدوء كبير ، وما أن نزل شق الرواق
الفاصل بين الحاضرين راحلا والكل يتابعه بإحساس غامض، لما وصل إلى المنتصف
خرجت سيدة من بين الجموع لتقف خلفه وسط الرواق بيضاء البشرة تعدت العقد
الخامس من العمر أنيقة في ملبسها مستقيمة الطول خطت خطوات نحوه بهدوء
واضعة يديها على صدرها وكأنها تخشى فرار قلبها منها ونادته باسمه، فتوقف
كان صوتها رخيم جدا هادئ كموج ولكنه لم يلتفت، كان الكل يراقب المشهد
بدهشة ، من صمت القاعة كان يمكن أن تسمع نبض القلوب في صدور الناس،
فالمشهد رغم غرابته يوحي بسر كبير كان يخفيه الرجل لم تبوح به حتى روايته
نادته مرة أخرى فلم يلتفت ولكن سقطت عصاه وانحدرت مدامعه، أسرعت نحوه
الخطى وارتمت على ظهره وعانقته من الخلف وهي تتلو عليه مقطع من روايته"
الآن صرت كومة من أحزان منسية، مركونة في رصيف الزمن ، أمني النفس بحضورك
يوما ولازلت أنتظر حتى تأتين ولا يهم بعدها إن مت بين يديك أو على رصيف
شارع غير مهم " وواصلت كلامها كأنها تجيب على مقطع الرواية، "لم تكن يوما
كومة حزن على الرصيف كنت دوما طفل القلب وفاكهته ولن اسمح لنفسي بأن أتركك
تموت على الرصيف"، حاول التقاط عصاه فمنعته ووضعت يده على كتفها فراح
يتوكأ عليها وواصل المسير معها تحت أنظار القاعة التي امتلأت بالتصفيق
والدموع .
وقف
أمام منصة التكريم يتكئ على عصاه، وورقة الكلمة التي سيلقيها مطبق عليها
بيده كأنه يخشى أن تطير فتضيع الكلمات منه ، وقوفه كان بعد جهد جهيد لولا
مساعدة المنشط .ما وصل إليه في الأدب لم يكن بالإمكان تجاهله بعدما بلغت
روايته التي نال بها أكبر جائزة عربية مشارق الأرض ومغاربها وترجمت للغات
الدنيا، وبعد هذا العمر كان على الجميع أن يعطوه حقه.
حين وقف أطرقت القاعة بصمتها تنتظر دفء كلماته الجميلة، لكنه لم ينبس ببنت
شفه وظل مختفيا خلف نظارته السوداء، لا أحد يدري إلى أين يحلق بنظره ،
لحظات طويلة مرت ووجهه موجه نحو القاعة ولم يكن بالإمكان متابعة عينيه
ليعلم الناس إلى ماذا ينظر، لولا أن همس أحدهم في أذنه لربما بقي واجما
كتمثال يتعكز على عصا، تقدم بعض خطوات نحو الميكرفون ولكنه ظل صامتا .
كان يمكن لأي كان أن يرى فيه ارتعاشه خفيفة تهز جسده، وصفرة تمسح وجهه ،
وأي واحد في مكان الحاضرين تمنى لو كان بإمكانه اختراق نظراته السوداء
ليرى أين تحلق عينيه.سرعان ما أطرق برأسه الأرض واسترسل في الكلام دون أن
ينظر إلى الورقة التي كانت بيني يديه
- إن كنت وصلت اليوم إلى ما أنا عليه فهذا بفضلك أنت ، لقد اجتمعت كل
الأسباب عندك لتخلقي هذا الذي يراه الناس اليوم انتصارا، لم أكن أكتب لأحد
سواك ، منذ عشرون سنة وأنا أكتب ، وأعرف أنك تقرئين ما أكتب، و أعرف أيضا
أن الصدف التي فرقتنا لعقدين ستجمعنا لا محالة ليس بصدفة بل بتخطيط ربما
منك، ما أعجب له أن تعارفنا قبل عشرين عاما كان صدفة واليوم نلتقي بتخطيط
مرسوم.
كان صوته حانيا ثقيلا يشق النفس ، فالكلام لم يكن موجه سوى لامرأة ، أين هي بين الناس..؟
لا أحد يراها سواه ،الكل يلتفت والكل يهمس لكن لا أحد رآها .. بين كل جملة
وجملة يتوقف طويلا كأنه يلتقط أنفاس الذكريات المطوية في ذاكرته ككتاب
قديم لازلت صفحته مفتوحة لأمرأة كي تقرأها ..
هل كنت تعتقدين أني سعيد لما وصلت إليه . ؟ لا لست سعيد مرت حياتي بلا
معنى رغم كل ما قيل وكتب عني، مرت من دونك كما العتمة التي لا تنجلي، صرت
أكتب لأن الكتابة كانت اقصر طريق إليك ، كنت تقرئينني في كل صفحة من رواية
أو قصة، طيلة سنوات ولم أكن أقرأك في أي صفحة سوى في صفحة القلب العليل
الذي انغرست فيه كبذرة صغيرة نمت لتستحوذ على كل كياني العمر كله ، لم أكن
أعلم عنك شيء وكنت تعلمين عني كل شيء طيلة هذا العمر الذي وقفت أكتب فيه
لك وحدك ، لقد انتصرت علي لأنك تعلمين عني وتتقصين أخباري، وانهزمت ..
هزمني الإنتظار والذكريات ومشاعري التي لم تنتهي .. ولم يتوقف عن الكلام
حين بدأت مدامعه تنسكب من تحت سواد نظارته بلا انقطاع ، تنحدر من عينيه
وتخط خديه لتلتقي في اسفل ذقنه وتسقط أمام قدميه .. وواصل كلامه " كما قلت
لي ذات شوق انها ستنتهي بعد شهور ، وهاهو عامها الثالث بعد العشرين ولا
زالت تكبر، لم أكن أكتب طيلة العمر سوى لأحقق لحظة مثل هذه ، لو كان أي
واحد من الحضور مكاني لانتشى فرحا لا تسعه الأرض بما رحبت ولكن الحزن
انتشى بي ولا تسعه الدنيا، كل هذا الذي تحقق كان لأجل أن أراك اليوم
وأستطيع أن أرتاح الآن لأني رايتك وأطمئن لوصول الرسالة التي تاهت طيلة
عقدين ، الجائزة لا تعنيني و يؤسفني قول ذلك لـأني خسرت الجائزة الحقيقة
منك منذ قررت الرحيل بعيدا ، وبعدها لم تعد تهم أي جائزة.
توقف عن الكلام ووجه كلامه للجميع شاكرا ثم أردف قائلا : والآن علي أن
أنصرف ، قالها تلك الكلمات ولا أحد كان يدري هل كان يهذي أم يقصد بها شخصا
بعينه حجبته نظارته القاتمة السواد عن الناس ، وحين هم بالنزول حاول
المنشط مساعدته لكنه أشار له بيده أن لا يفعل فتراجع المنشط إلى الخلف
وعينيه تتبع العجوز الذي نزل الدرج بهدوء كبير ، وما أن نزل شق الرواق
الفاصل بين الحاضرين راحلا والكل يتابعه بإحساس غامض، لما وصل إلى المنتصف
خرجت سيدة من بين الجموع لتقف خلفه وسط الرواق بيضاء البشرة تعدت العقد
الخامس من العمر أنيقة في ملبسها مستقيمة الطول خطت خطوات نحوه بهدوء
واضعة يديها على صدرها وكأنها تخشى فرار قلبها منها ونادته باسمه، فتوقف
كان صوتها رخيم جدا هادئ كموج ولكنه لم يلتفت، كان الكل يراقب المشهد
بدهشة ، من صمت القاعة كان يمكن أن تسمع نبض القلوب في صدور الناس،
فالمشهد رغم غرابته يوحي بسر كبير كان يخفيه الرجل لم تبوح به حتى روايته
نادته مرة أخرى فلم يلتفت ولكن سقطت عصاه وانحدرت مدامعه، أسرعت نحوه
الخطى وارتمت على ظهره وعانقته من الخلف وهي تتلو عليه مقطع من روايته"
الآن صرت كومة من أحزان منسية، مركونة في رصيف الزمن ، أمني النفس بحضورك
يوما ولازلت أنتظر حتى تأتين ولا يهم بعدها إن مت بين يديك أو على رصيف
شارع غير مهم " وواصلت كلامها كأنها تجيب على مقطع الرواية، "لم تكن يوما
كومة حزن على الرصيف كنت دوما طفل القلب وفاكهته ولن اسمح لنفسي بأن أتركك
تموت على الرصيف"، حاول التقاط عصاه فمنعته ووضعت يده على كتفها فراح
يتوكأ عليها وواصل المسير معها تحت أنظار القاعة التي امتلأت بالتصفيق
والدموع .
وقف
أمام منصة التكريم يتكئ على عصاه، وورقة الكلمة التي سيلقيها مطبق عليها
بيده كأنه يخشى أن تطير فتضيع الكلمات منه ، وقوفه كان بعد جهد جهيد لولا
مساعدة المنشط .ما وصل إليه في الأدب لم يكن بالإمكان تجاهله بعدما بلغت
روايته التي نال بها أكبر جائزة عربية مشارق الأرض ومغاربها وترجمت للغات
الدنيا، وبعد هذا العمر كان على الجميع أن يعطوه حقه.
حين وقف أطرقت القاعة بصمتها تنتظر دفء كلماته الجميلة، لكنه لم ينبس ببنت
شفه وظل مختفيا خلف نظارته السوداء، لا أحد يدري إلى أين يحلق بنظره ،
لحظات طويلة مرت ووجهه موجه نحو القاعة ولم يكن بالإمكان متابعة عينيه
ليعلم الناس إلى ماذا ينظر، لولا أن همس أحدهم في أذنه لربما بقي واجما
كتمثال يتعكز على عصا، تقدم بعض خطوات نحو الميكرفون ولكنه ظل صامتا .
كان يمكن لأي كان أن يرى فيه ارتعاشه خفيفة تهز جسده، وصفرة تمسح وجهه ،
وأي واحد في مكان الحاضرين تمنى لو كان بإمكانه اختراق نظراته السوداء
ليرى أين تحلق عينيه.سرعان ما أطرق برأسه الأرض واسترسل في الكلام دون أن
ينظر إلى الورقة التي كانت بيني يديه
- إن كنت وصلت اليوم إلى ما أنا عليه فهذا بفضلك أنت ، لقد اجتمعت كل
الأسباب عندك لتخلقي هذا الذي يراه الناس اليوم انتصارا، لم أكن أكتب لأحد
سواك ، منذ عشرون سنة وأنا أكتب ، وأعرف أنك تقرئين ما أكتب، و أعرف أيضا
أن الصدف التي فرقتنا لعقدين ستجمعنا لا محالة ليس بصدفة بل بتخطيط ربما
منك، ما أعجب له أن تعارفنا قبل عشرين عاما كان صدفة واليوم نلتقي بتخطيط
مرسوم.
كان صوته حانيا ثقيلا يشق النفس ، فالكلام لم يكن موجه سوى لامرأة ، أين هي بين الناس..؟
لا أحد يراها سواه ،الكل يلتفت والكل يهمس لكن لا أحد رآها .. بين كل جملة
وجملة يتوقف طويلا كأنه يلتقط أنفاس الذكريات المطوية في ذاكرته ككتاب
قديم لازلت صفحته مفتوحة لأمرأة كي تقرأها ..
هل كنت تعتقدين أني سعيد لما وصلت إليه . ؟ لا لست سعيد مرت حياتي بلا
معنى رغم كل ما قيل وكتب عني، مرت من دونك كما العتمة التي لا تنجلي، صرت
أكتب لأن الكتابة كانت اقصر طريق إليك ، كنت تقرئينني في كل صفحة من رواية
أو قصة، طيلة سنوات ولم أكن أقرأك في أي صفحة سوى في صفحة القلب العليل
الذي انغرست فيه كبذرة صغيرة نمت لتستحوذ على كل كياني العمر كله ، لم أكن
أعلم عنك شيء وكنت تعلمين عني كل شيء طيلة هذا العمر الذي وقفت أكتب فيه
لك وحدك ، لقد انتصرت علي لأنك تعلمين عني وتتقصين أخباري، وانهزمت ..
هزمني الإنتظار والذكريات ومشاعري التي لم تنتهي .. ولم يتوقف عن الكلام
حين بدأت مدامعه تنسكب من تحت سواد نظارته بلا انقطاع ، تنحدر من عينيه
وتخط خديه لتلتقي في اسفل ذقنه وتسقط أمام قدميه .. وواصل كلامه " كما قلت
لي ذات شوق انها ستنتهي بعد شهور ، وهاهو عامها الثالث بعد العشرين ولا
زالت تكبر، لم أكن أكتب طيلة العمر سوى لأحقق لحظة مثل هذه ، لو كان أي
واحد من الحضور مكاني لانتشى فرحا لا تسعه الأرض بما رحبت ولكن الحزن
انتشى بي ولا تسعه الدنيا، كل هذا الذي تحقق كان لأجل أن أراك اليوم
وأستطيع أن أرتاح الآن لأني رايتك وأطمئن لوصول الرسالة التي تاهت طيلة
عقدين ، الجائزة لا تعنيني و يؤسفني قول ذلك لـأني خسرت الجائزة الحقيقة
منك منذ قررت الرحيل بعيدا ، وبعدها لم تعد تهم أي جائزة.
توقف عن الكلام ووجه كلامه للجميع شاكرا ثم أردف قائلا : والآن علي أن
أنصرف ، قالها تلك الكلمات ولا أحد كان يدري هل كان يهذي أم يقصد بها شخصا
بعينه حجبته نظارته القاتمة السواد عن الناس ، وحين هم بالنزول حاول
المنشط مساعدته لكنه أشار له بيده أن لا يفعل فتراجع المنشط إلى الخلف
وعينيه تتبع العجوز الذي نزل الدرج بهدوء كبير ، وما أن نزل شق الرواق
الفاصل بين الحاضرين راحلا والكل يتابعه بإحساس غامض، لما وصل إلى المنتصف
خرجت سيدة من بين الجموع لتقف خلفه وسط الرواق بيضاء البشرة تعدت العقد
الخامس من العمر أنيقة في ملبسها مستقيمة الطول خطت خطوات نحوه بهدوء
واضعة يديها على صدرها وكأنها تخشى فرار قلبها منها ونادته باسمه، فتوقف
كان صوتها رخيم جدا هادئ كموج ولكنه لم يلتفت، كان الكل يراقب المشهد
بدهشة ، من صمت القاعة كان يمكن أن تسمع نبض القلوب في صدور الناس،
فالمشهد رغم غرابته يوحي بسر كبير كان يخفيه الرجل لم تبوح به حتى روايته
نادته مرة أخرى فلم يلتفت ولكن سقطت عصاه وانحدرت مدامعه، أسرعت نحوه
الخطى وارتمت على ظهره وعانقته من الخلف وهي تتلو عليه مقطع من روايته"
الآن صرت كومة من أحزان منسية، مركونة في رصيف الزمن ، أمني النفس بحضورك
يوما ولازلت أنتظر حتى تأتين ولا يهم بعدها إن مت بين يديك أو على رصيف
شارع غير مهم " وواصلت كلامها كأنها تجيب على مقطع الرواية، "لم تكن يوما
كومة حزن على الرصيف كنت دوما طفل القلب وفاكهته ولن اسمح لنفسي بأن أتركك
تموت على الرصيف"، حاول التقاط عصاه فمنعته ووضعت يده على كتفها فراح
يتوكأ عليها وواصل المسير معها تحت أنظار القاعة التي امتلأت بالتصفيق
والدموع .
بقلم الاستاذ : محمد الدلومي
أحمد