د.محمد الدحيم
من النادر أن نجد قضية اختلفت فيها وجهات النظر بمثل ما اختلفت وتعددت في قضية المرأة، هذه القضية التي تعددت فيها التشريعات ووجهات نظر المفكرين والدعاة على مر العصور، حتى وصل التعدد إلى مستوى التناقض والاختلاف الجذري الذي لا إمكان معه للقاء أو الاتفاق أو التقارب. وقد أغرى هذا التعدد كثيراً ممن لم تتهيأ لهم ظروف المعرفة والقدرة على الاجتهاد الصحيح في مثل هذه القضية الخطرة، فقالوا وسوّدوا بمقالاتهم صحائف كثيرة لا يجد فيها القارئ المحقق سوى جهالات كبيرة ومركبة، وشذرات مبتورة من حقائق غير كاملة؛ عرفت شيئاً لكن غاب عنها أشياء كثيرة، ولا عجب في هذا التعدد والاختلاف وكثرة القول والقيل، فإن قضية المرأة إنما تعاني الجزء الأكبر من العمران البشري في حاضره ومستقبله؛ فأوضاع المرأة تؤثر بالسلب والإيجاب على كافة أوضاع العمران البشري؛ فهي لا تعيش منفردة فيه.
لقد مر على معظم البيئات الإسلامية قرون متطاولة من التهميش للمرأة في أنشطة محدودة وقوالب معينة وتحت توصيات مشددة - دينياً واجتماعياً وسياسياً- لا تتناسب إطلاقاً مع حجم الطاقات والقدرات والإمكانات التي منحها الله للمرأة في ظل الإسلام بكماله وشموله، فنحن - بحمد الله- الأمة الوحيدة التي حفظ الله لها اتجاهها العام وأهدافها الكبرى، بما أذن لها من خلود الرسالة، ولكن تقلب الأيام، والليالي، وبعد العهد، وطول الأمد، وطروء الحوادث وامتزاج الثقافات وتنوع الظروف - كل ذلك - أدى إلى غبش في الرؤية واختلاط العادات بالعبادات وتقديس الموروثات الآبائية حتى نُسبت إلى الدين ومورست تحت هذا المسمّى، وضُرب بالسياط مخالفها، ورُمي بالتبديع مناقشها، مُهدَّداً بـ(السيف المشهور)، حتى ضعف الإحساس بالهدف أو غاب. النتيجة الحتمية لذلك أن الأمة اليوم أًصبحت تواجه ضغوطات كبيرة من الخارج قابلها خواء من الداخل؛ مما أدى إلى سهولة الاستعمار الفكري والسلوكي في الوقت الذي كنا مرابطين فيه على حراسة الحدود. فقد تكشفت الأقنعة وأصبح إمكان كل أحد أن يصافح المعرفة ويتواصل مع الحقيقة فإذا هو يفاجَأ بأن كثيراً مما كان يُملى عليه بكرة وأصيلاً ما هو إلاّ رؤى مذهبية في أحسن أحوالها سيقت على أنها نصوص معصومة.
مما أدى إلى ردة فعل بنفس القوة لكن بعكس الاتجاه. وأخطر ما يكون الحال حين تقل الثقة أو تضعف المصداقية، ونحن في عصر معلوماتي لا يرحم الكسالى ولا يعتذر للغافلين.
إن من ينظر إلى وضعية المرأة في كثير من البلدان الإسلامية يجد أنها ضعيفة التركيب هشة البناء (دينياً وثقافياً واجتماعياً) الأمر الذي جعل جهات عديدة تستهدف المرأة، فدعت إلى سفورها واختلاطها بالرجال في حال زرية من التحلل من الحياء ونبذ الفضيلة، ووجدت من المرأة ترحيباً، إما أنها انخدعت به أو لأنها تهرب إليه من مأساتها، ففقدت المرأة توازنها.
والحق أن ثمة جهودًا كبيرة أنفقت في الرد على تلك الحملات التي طغى بعضها وجاوز الوسط. الأمر الذي شغلنا عن تنمية المرأة المسلمة، ولو أننا رجعنا إلى ما كتبناه وسجلناه في قضايا المرأة لوجدنا أن نحواً من 80% من مؤلفاتنا ومحاضراتنا ودروسنا و فتاوينا تدور حول مسألة الحجاب، ولوجدنا أن نحواً من 20% منها يتحدث عن ترشيد المرأة وعلى استحياء في بعض الأحيان، كان المطلوب هو العكس.
(ما هكذا يا سعد تورد الإبل)!! وما هكذا تُحرس الفضيلة، وإننا إذا أردنا إنصاف المسألة ورغبنا في إحقاق الحق فلن نجد سوى هدي القرآن والسنة في أجلى صفاء وأجمل بهاء. وما لم نستطع ذلك فإننا نكرس التخلف ونعمق الخلل وسوف تُسألون.
إن الوحي المعظم ينظر إلى المرأة على أنها إنسان، وهذا هو سر المسألة الأكبر ومفتاحها الأوحد، وعليه فإن أي نظرة أخرى غير هدي الوحي فإنها لا هدي سواء السبيل، بل تضل ضلالاً بعيداً . لقد فهم الصحابة - رضي الله نهم - وهم من شاهدوا التنـزيل- هذا الفهم القويم.
ففي صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبي-صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنها- أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما كان يوم من ذلك والجارية تمشطني فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: إني من الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إني لكم فرط على الحوض .." الحديث.
بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرحب بالمرأة، ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها - قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله".
وهذه النظرة الصائبة للمرأة هي التي جعلتها تتحمل مسؤوليتها، فعن أبي سعيد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله -: ذهب الرجال بحديثك - وفي رواية قال النساء للنبي- صلى الله عليه وسلم -: غلبنا عليك الرجال - فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: "اجتمعن في يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا" فاجتمعن فأتاهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فعلّمهن ما علّمه الله ثم قال: "ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلاّ كان لها حجاباً من النار ". فقالت امرأة منهم: يا رسول الله، اثنين؟ قال: فأعادتها مرتين ثم قال: " واثنين واثنين واثنين" رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه. رواه البخاري ومسلم .يقول الحافظ ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد، فطنة أم الفضل لاستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال؛ لأن ذلك كان في يوم حر بعد الظهيرة اهـ.
ولست هنا أرمي إلى استيعاب النصوص ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الموسوعة الجميلة(تحرير المرأة في عصر الرسالة) لأبي شقة- قدَّس الله روحه-.
وإذا كانت المرأة إنساناً انسحب عليه كل خصائص الإنسان وسماته وأي معاملة لها تعاكس هذه الخصائص فإنها تخرجها عن إنسانيتها، وبالتالي لا تحصل الاستجابة بل على الضد.
إن على الدعاة إلى الله أن يجعلوا الإسلام خيارًا للمرأة. الإسلام وليس غيره من العادات والأعراف أو القناعات المذهبية أو الفتاوى الإقليمية.
كما يجب عرض ما يستشكله الناظر على نصوص الوحي بفهم السلف بعيداً عن القراءات الإسقاطية التي تختزل وتقولب، وبعيداً عن استهجان الرأي الآخر أياً كان، كيف وإذا كان هو قول الجمهور؟ ولنعلم يقيناً أننا بالمسكنات الفقهية (المصلحة، سد الذرائع، الأحوط، الخروج من الخلاف) لن نحل قضية، وإن استطعنا إزالة الأعراض فقد بقيت الأمراض، وقصتنا مع محاربة الأعراض، وقطع الأوراق وترك الجذور لتنبت من جديد قصة طويلة طويلة هي ما أشير إليه في مقالاتي في هذا الموقع المبارك.
لقد كنت عرضت هذه القضية في محاضرة سُجّلت باسم (المرأة من جديد)، وبعد
نشرها ضاق بها قوم وسُرَّ بها آخرون، وحسبي أنني مجتهد أدور بين الأجر والأجرين، مؤمناً بخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- والحديث حروف لها معان كبيرة، وللمعاني دلالات واسعة، وللدلالات ميادين رحبة للتطبيق. أقول ما تقرؤون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل تقصير وذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.