أبو الزلف.. شيخ الصحافة الفلسطينية
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] لم تخل حياة هذا الرجل من علاقات الشد والجذب، واجه الأزمات المختلفة مع بعض الحكومات، صمد في وجه إقصائه عن عرش الصحافة الفلسطينية طوال عشرات السنين.. ورحل أخيرا وهو لا يزال ملكها.
ظل أبو الزلف يحارب بقلمه ويناضل بفكره، وجعل همه الأول قضية فلسطين من خلال صفحات جريدته، حتى فجر يوم الثلاثاء الموافق 29-3-2005، لم يكن بمقدور أبو الزلف أن ينظر بعيونه الفاحصة المتأملة على النسخة الأولى من صحيفته قبل صدورها كعادته كل صباح، حيث انتقل لرحمة الله تعالى عن عمر يناهز 82 عاما، تاركا صحيفة القدس متشحة بلون الحزن وبمساحات السواد تنعى مؤسسها وصاحب الفضل في خروجها إلى النور.
من وإلى يافامحمود أبو الزلف هو مؤسس ورئيس تحرير صحيفة "القدس" الأقدم والأكثر انتشارا بين الصحف الفلسطينية، ولد عام 1924 في مدينة يافا حيث أنهى دراسته الثانوية ثم غادر فلسطين متوجها إلى بيروت، وهناك التحق بالجامعة الأمريكية ودرس الإعلام وما أنهى دراسته في بيروت حتى عاد إلى يافا ليعمل صحفيا في جريدة "الدفاع" التي كانت أكثر الجرائد اليومية رواجا في فلسطين آنذاك وكانت ملكا للراحل إبراهيم الشنطي.
وتسببت النكبة في وقف جريدة "الدفاع" عن الصدور؛ وهو ما دفع القائمين عليها إلى نقلها إلى القاهرة حيث كانت تحرر وتطبع وترسل بالطائرة إلى المملكة الأردنية الهاشمية. وبذل أبو الزلف جهودا كثيفة لكي تعود جريدة "الدفاع" إلى الوطن ونجح في إعادتها إلى مدينة القدس وكان مسئولا عن تحرير الشئون الخارجية فيها، وظل يعمل فيها حتى عام 1953 عندما نشأ خلاف يتعلق بينه وبين عدد من المحررين انتهى باستقالته.
من الجهاد إلى القدسأسس أبو الزلف جريدة مستقلة عرفت باسم "الجهاد" بالمشاركة مع الراحلين سليم الشريف ومحمود يعيش التي "سرعان ما أصبحت أوسع الجرائد العربية انتشارا في فلسطين". غير أنه أوائل شباط عام 1967 أصدرت الحكومة الأردنية قانون المطبوعات الذي بموجبه تم إلغاء كافة التراخيص الممنوحة لجميع الصحف للحد من عدد الجرائد اليومية التي كانت تصدر في ذلك الوقت؛ وهو ما ألزم جريدة "الجهاد" بالصدور مع جريدة "الدفاع" باعتبارهما جريدة واحدة باسم "القدس".
وفي عام 1967 تحت وطأة احتلال مدينة القدس وبقية الأراضي الفلسطينية في حزيران حجبت جريدة القدس وجميع الصحف الصادرة في مدينة القدس الشريف عن الصدور لفترة طويلة بسبب الاحتلال وإجراءاته القمعية ضد الصحافة الفلسطينية.
ولم يثن الاحتلال عزيمة أبو الزلف، فبالرغم من المعارضات الشديدة التي واجهته فإنه ما زاد إلا يقينا وثباتا على موقفه فلجأ إلى القانون لإعادة إصدار صحيفة "القدس". وفي عام 1968 استطاع أن يحصل على ترخيص لصحيفة "القدس" التي خرجت للنور من جديد، ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا تعتبر هذه الصحيفة من أولى الصحف الفلسطينية من حيث التوزيع والانتشار رغم المنافسة من صحف أخرى كانت تشتد وتهبط حسب الظروف.
وفي حين بقيت القدس تصدر صباح كل يوم اختفت صحف مثل الشعب والفجر اللتين مولتا من منظمة التحرير، وصحيفة النهار المؤيدة للأردن والتي صدرت لتسد الفراغ الذي أحدثه تحول القدس لتأييد منظمة التحرير. كما لم تستطع صحيفتان يوميتان هما "الأيام" الصادرة في رام الله وصحيفة "الحياة الجديدة" التي تمولها السلطة الفلسطينية -صدرتا بعد تأسيس السلطة الفلسطينية- منافسة القدس التي بقيت الأولى من حيث التوزيع والموارد الإعلانية في السوق الفلسطينية؛ فحسب استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز بحوث الإعلام والرأي الفلسطينية فإن "القدس" هي الأكثر انتشارا وتوزيعا وتفضيلا لدى القراء تليها "الأيام" ثم "الحياة الجديدة".
شيخ الصحافةعايش أبو الزلف جميع مراحل الصحافة الفلسطينية من النكبة حتى النكسة فالانتفاضة الأولى ثم انتفاضة الأقصى الحالية؛ لذا فقد استحق لقب "شيخ الصحافة" عن جدارة وكان يحارب بقلمه ويناضل بفكره وعبر صفحات جريدته، جعل همه الأول قضية فلسطين فقام عبر صحيفته بتذكير الجيل الجديد من الفلسطينيين بتاريخهم عبر نشر الصفحة الأولى من الصحيفة قبل 20 عاما ومن خلال هذه الصفحات يرى القارئ كيف يعيد التاريخ نفسه.
وعلى صعيد التحرير عرف عن أبو الزلف شخصيته القوية وتمتعه بحس صحفي عال وقدرته على تقييم أي خبر أو تقرير، وكان معروفا عنه أنه لا ينام قبل أن يقرأ الصحيفة قبل صدورها ولازمته هذه العادة حتى أيامه الأخيرة.
وعلى الصعيد السياسي كان يعتبر براجماتيا؛ حيث أبقى على علاقة جيدة مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع الحكومة الأردنية حتى في أوقات الأزمات.
وواجه أبو الزلف أزمة مع الحكومة الأردنية أواسط الثمانينيات عندما أصبح أكثر قربا من منظمة التحرير. ودعمت جهات أردنية عندها إنشاء صحيفة "النهار" لتنافس "القدس" وتطرح وجهة نظر مقربة من الأردن، ثم توقفت عن الصدور مع قيام السلطة الفلسطينية في 1994.
ولم تخل علاقته مع السلطة الفلسطينية في البداية من أزمات حيث نشرت الصحيفة بعض المقالات التي لم تشهد قبولا من جانب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، إلا أنه استطاع بحنكته السياسية أن يحتوي أية أزمة تواجهه وتعترض طريق صحيفته، واستطاع بنجاح أن يجعلها مستقلة لا مهام لها سوى خدمة فلسطين وأبنائها في الداخل والخارج.
شهادة الابنيشيد د. مروان أبو الزلف نجل الفقيد والمدير العام لصحيفة "القدس" بوالده قائلا: كان رحمه الله شخصية متواضعة يحب عامة الناس ينزل للشارع يبتسم للصغير والكبير يعطف على الضعيف والمسكين.
وأكد أنه تعلم من والده قوة الشخصية ورهافة الحس والذكاء، وأضاف: لقد غرس فينا كل الصفات الجميلة. سنفتقده كثيرا وستفتقده الصحافة الفلسطينية، كان عميدها، ويكفيه فخرا أن على يديه كانت "القدس" الأكثر انتشارا وتوزيعا منذ نشأتها حتى اللحظة، ما أتمناه أن يسير تلاميذه على نهجه في الحيادية والموضوعية وإرساء حرية الكلمة.
ويكشف الابن عن الجوانب المجهولة عن القراء وكثير من الناس في حياة الأستاذ أبو الزلف فيقول: "كان عطوفا ورحيما إلى أقصى درجة، لم يبخل بماله على الأيتام؛ فأخذ يكفلهم بكل مودة ورأفة، كما أنه دعم المؤسسات الخيرية ولم يغلق بابه في وجه أي محتاج طلب مساعدته. ولم يغفل عن أهم الشرائح في المجتمع الفلسطيني ألا وهي الطلبة، فجادت يده بسخاء فقدم المعونة للطلبة المحتاجين وشجع طلبة الامتياز في الجامعات الفلسطينية من خلال منحه الدراسية التي يفتخر بها كل طالب متفوق".
وسيتولى "وليد أبو الزلف" نجل الفقيد رئاسة تحرير الصحيفة، ووليد -45 عاما- أسس عام 1988 صحيفة "القدس العربي" الصادرة في لندن.