عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو يا أبا القاسم ، إن الله تعالى يمسك السموات يوم القيامة على إصبع ، والأرضيين على إصبع ، والجبال والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له ثم قرأ: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون }(1) متفق عليه واللفظ لمسلم كتاب صفة الجنة والنار ح ( 2786 ) ورواه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ( لما خلقت بيدي ) ح (7414 ).
قال الإمام علي بن خلف بن بطال شارح صحيح البخاري: " لا يحمل ذكر الإصبع على الجارحة ، بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات ، لا تكيف ولا تحدد ، وهذا ينسب للأشعري ، وعن ابن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقاً يخلقه الله فيحمله الله ما يحمل الإصبع ، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان كقول القائل: ما فلان إلا بين إصبعي ، إذا أراد الإخبار عن قدرته عليه "
إلى أن قال: " وحاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات ، وأخبر عن قدرة الله على جميعها ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً له وتعجبا من كونه يستعظم ذلك في قدرة الله تعالى ، وأن ذلك ليس في جنب ما يقدر عليه بعظيم ولذلك قرأ قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره} الآية أي ليس قدره في القدرة على ما يخلق على الحد الذي ينتهي إليه الوهم ويحيط به الحصر ، لأنه تعالى يقدر على إمساك مخلوقاته على غير شيء كما هي اليوم. قال تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } وقال: {رفع السموات بغير عمدٍ ترونها} نقل ذلك ابن حجر في ( فتح الباري ) ثم قال: وقال الخطابي : لم يقع ذكر الإصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به ، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع ، بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين. وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم من قول الحبر فيحتمل الرضا والإنكار ، وأما قول الراوي: " تصديقاً له " فظن منه وحسبان وقد جاء الحديث من عدة طرق ليس فيها هذه الزيادة ، وعلى تقدير صحتها فقد يستدل بحمرة الوجه على الخجل . وبصفرته على الوجل ، ويكون الأمر بخلاف ذلك. فقد تكون الحمرة لأمر حدث في البدن كثوران الدم . والصفرة لثوران خلط مرار وغيره ، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظاً فهو محمول على تأويل قوله تعالى:{ والسموات مطويات بيمينه} أي قدرته على طيها وسهولة الأمر عليه في جمعها بمنزلة من جمع شيئاً في كفه واستقل بحمله من غير أن يجمع كفه عليه ، بل يقله ببعض أصابعه. وقد جرى في أمثالهم: فلان يقل كذا بإصبعه ويعمله بخنصره انتهى ملخصا.
قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: " قوله : إن الله يمسك السموات على إصبع ، والأرضيين على إصبع ، إلى قوله : ثم يهزهن هذا من أحاديث الصفات ، وقد سبق فيها المذهبان التأويل ، والإمساك عنه مع الإيمان بها ، مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد ، فعلى المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل ، والناس يذكرون الإصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار ، فيقول أحدهم: بإصبعي أقتل زيداً أي لا كلفة عليَ في قتله . وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته ، وهذا غير ممتنع ، والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة.
قوله: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقاً له ، ثم قرأ:{ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه }ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحبر في قوله : إن الله تعالى يقبض السموات والأرضيين والمخلوقات بالإصبع ، ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول. قال القاضي: وقال بعض المتكلمين: ليس ضحكه صلى الله عليه وسلم وتعجبه وتلاوته للآية تصديقاً للحبر ، بل هو رد لقوله ، وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده ، فإن مذهب اليهود التجسيم ، ففهم منه ذلك ، وقوله: تصديقاً له إنما هو من كلام الراوي على ما فهم ، والأول أظهر." (1) من كتاب صفة الجنة والنار ح ( 2786 ).
أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم مُصرﱢف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " (2) في كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء ح ( 2654 ).
يقول الإمام النووي في شرحه للحديث : " هذا من أحاديث الصفات وفيها القولان السابقان قريباً: أحدهما: الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى ، بل يؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد قال الله تعالى: ( ليس كمثله شيء )
الثاني : يتأول بحسب ما يليق بها ، فعلى هذا المراد المجاز: كما يقال ( فلان في قبضتي ) و ( في كفي )، لا يراد به أنه حال في كفه ، بل المراد: تخت قدرتي.
ويقال ( فلان بين أُصْبُعَيّ أقلبه كيف شئت ) أي: أنّه مِنيﱢ على قهره والتصرف فيه كيف شِئْتُ.
فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء ، لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوته ما أراده كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه ، فخاطب العرب بما يفهمونه ومثله بالمعاني الحسية تأكيداً له في نفوسهم.
فإن قيل : فقدرة الله تعالى واحدة ، والأصبعان للتثنية ، فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز واستعارة ، فوقع التمثيل بحسب ما اعتاده غير مقصود به التثنية والجمع والله أعلم " أ.هــ.