ألقى الليل بعباءته على رأس السماء، والظلام يتابع دموع المدينة المحترقة، آهاتها، صرخات نسائها وشيوخها المؤلمة، بينما يبقى ثَمَّةَ شيءٌ متكورٌ تحت أحد جُدْرانها المتزلزلة، لا بد وأنه فتًى صغيرٌ فَقَدَ عائلته أثناء الغارة الأخيرة على مدينته، تُمزق فؤادَه تلك الوحشةُ الصعبة، يشعر بالغُرْبة وهو لا يزال في شوارعها التي تهدَّمت، منازل أكلتها القنابل بمن فيها والجيش لا يستريح.
يشعر بالمطاردة فيقوم من رَقْدته مرعوبًا ترتجف ضروسه، فيسير في الحارات مُترنِّحًا كالمغشي عليه وسط الظلام المتناثر في كلِّ مكانٍ، ربَّما يسمع صرخات الشهداء تحت الأنقاض، لكنه لا يستطيع فِعْلَ شيءٍ، يكاد يسمع صوت مِذْيَاع يصرخ: "
محاولات الجيش لتهويد المدينة ما زالت مستمرَّة، وسط الصمت العربي الفاضح" يبتسم ابتسامة ساخرة يملؤها البكاءُ ثم يمضي.
بعد رحلة مُضْنية من السير في أحد الشوارع يجد مكانًا - إلى حَدٍّ ما - آمنًا، يُلقي بجسده بجانب أحد المنازل التي لم تَنْهرْ بعدُ، تتمزق أحشاؤه جوعًا، يحاول النوم،
لكن كيف لجائع أن ينام؟! طاردته الذكريات من جديد رغم صوت القنابل والدبابات المرعِب، أخذتْه ذكرياتُه بعيدًا إلى شجرة "
الزيتون" التي كان يتسلقها مع إخوته الصِّغار،: يااااه، أخيرًا ينام.
لم تمضِ دقائق حتى وجد يدًا ما تُوقظه من رَقْدته تلك، يفتح عينيه الصغيرتين في فَزع.
لا تفزع يا صغير.
من أنت؟قالها بعد أن رأى في وجه مَن يحدِّثه نورًا لم يرَ مثيلاً له في الوجود، ذو جسدٍ قوى متماسك كالبنيان، وفى ركن بعيد ينتظره فرسه الذي يصدر صهيلاً عذبًا كأنَّه من ألحان الجنة.
خُذْ هذه يا صغير، هي لك.
تفحَّص فيها فوجدها برتقالة ذات شكلٍ غريب، التقفها من يده بسرعة البَرْق من الجوع، ضحك ذلك الفارس ضحكة رائعة، ثم ربّت على كتف الصغير، لكنه كان منشغلاً في أمر البرتقالة.
كان الفارس قد ركب فرسه ثم تحرَّك، وقبل أن يختفي صرخ الصبي بغرابة متجهًا نحوه.
هل أنت هو؟ نعم، نعم، أنت هو،
هل جئت تحرِّرها؟ حنانيكَ يا صغير، فليقضِ الله أمرًا كان مفعولاً.
نحن ننتظركم جميعًا، هم لن يفعلوا شيئًا، إنهم يحبون النوم يا سيِّدي، نحن في انتظارك.
قام الصبي من رَقْدته مفزوعًا؛ فالدبابات أمامه بالضبط تزلزل أرضيَّة الشارع، كأنه كان حُلْمًا، لكنه شعر أن الجوع قد رحل عنه والخوف أيضًا، والعجيب أن البرتقالة لا تزال في يده.
الدبابة الأولى تقترب من جسده الذي لا يكاد يُرى في الظلام، والمذياع ما زال يردد: "
الشهداء يتراكمون بالمدينة وسط صمت عربي متخاذل"، بينما الصغير يحتضن الشهادة في فرح، يمدد ذراعيه لأقدام الدبابات، ناظرًا إلى السماء ضاحكًا مستبشرًا، يتذكر شجرة "
الزيتون" ووالديه وأقرانَه وإخوته الصغار، وما زال المذياع يبكي، وما زالت أقدام الدبابات تقترب رويدًا رويدًا؛ حتى تمزق جسده وسط الشارع المظلم، ولم يبقَ في يده إلا تلك البرتقالة.