ريتشارد قلبالأسد
ثار الغرب الأوربي بعدما جاءته الأنباء بفاجعة معركة حطين في (24 من ربيع الآخر 583هـ= 4 من يوليو 1187م)، ولم تكن هزيمة حلَّت بالصليبيين في الشام مثل غيرها من الهزائم التي تُتدارك، ولكنها كانت أكبر كارثة أحاطت بهم منذ أن وطأت أقدامهم الشام، فقد فقدوا زهرة فرسانهم وشبابهم، وأصبح وجودهم رهنا بقبضة صلاح الدين الأيوبي صاحب الانتصار العظيم.
وجاء تحرك الغرب الأوربي سريعًا محاولا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من قوة الصليبيين في الشام، واسترداد ما فُقد منهم من بيت المقدس وبعض المدن الساحلية، وأسفر هذا التحرك عن تجهيز حملة كبيرة تداعت لها أوربا، واشترك في إعدادها ثلاثة من كبار ملوك أوربا هم: فردريك بربروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب أوغسطس ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وهو موضوع حديث اليوم.
المولد والنشأة
ولد ريتشارد في أكسفورد بإنجلترا في (غرة شعبان 552 هـ = 8 من سبتمبر 1157م)، ونشأ نشأة عسكرية؛ فشبّ ميالاً للحرب والقتال، وعندما بلغ الحادية عشرة ورث عن والدته دوقية "أكيتين" بفرنسا، ثم تولى سنة (568هـ = 1172م) دوقية "بواتييه"، وهي إحدى المقاطعات الفرنسية التي كانت تابعة آنذاك لسلطة ملك إنجلترا.
ويبدو أنه كان معارضًا لسياسة والده الملك هنري الثاني طامعًا خلافته؛ فاشترك مع إخوته في مؤامرة ضد والدهم سنة (569هـ= 1173م)، ولكنها فشلت، ثم ما لبث أن عفا عنه والده، وانصرف إلى دعم سلطانه على المقاطعات التابعة له، وشرع في الضغط على أبيه ليعترف به وريثا شرعيا يخلفه على عرش إنجلترا والمقاطعات الفرنسية التابعة لها.
ولم يكتف ريتشارد بذلك بل تحالف مع فيليب أوغسطس لتحقيق غرضه في الوصول إلى عرش إنجلترا، وأعلن تمرده على والده وثار ضده سنة (584 هـ = 1188م)، ولم يكن أبوه في سن تسمح له بمقابلة تمرد ابنه بضربات قوية؛ فقد كان كبيرا السن عليل البدن؛ الأمر الذي عجل بوفاته سنة (585هـ= 1189م)، وخلفه ريتشارد ملكا على عرش إنجلترا في (20 من جمادى الأولى 585 هـ = 6 من يوليو 1189م) باسم ريتشارد الأول.
الإعداد للحملة الصليبية
وفي أثناء فترة صراع ريتشارد للوصول إلى العرش كان المسلمون قد استردوا بيت المقدس، بعد أن ظل أسيرًا في أيدي الصليبيين نحو 90 عامًا، وبدأت ترتفع صيحات عاتية في أوربا تنادي باستعادة بيت المقدس، واستعادة الروح التي ضاعت تحت سنابك خيل صلاح الدين، واسترداد الهيبة المفقودة، وصادفت تلك الدعوات هوى في نفس ريتشارد، وكان بطبيعته يميل إلى الحرب ويمني نفسه بالنصر المنشود والعودة إلى مملكته مرفوع الهامة تكلل أكاليل النصر رأسه، ويلهج الناس بذكره، وعلى الفور بدأ في إعداد حملته التي كلفته أموالا طائلة، وفي الوقت نفسه كان فيليب أوغسطس ملك فرنسا وفردريك بربروسا يجهزان لحملتهما لنفس الغرض.
الطريق إلى عكا
أبحر ريتشارد بأسطوله قاصدا عكا فوصلها في (13 من جمادى الأولى 587 هـ = 8 من يونيو 1191م)، وقوَّى من عزيمتهم وصول قوات فيليب أوغسطس حيث جمع شمل الصليبيين تحت زعامته، وبدأ في مهاجمة عكا وقذفها قذفا متصلا، ثم جاءت قوات ريتشارد فازداد الصليبيون قوة إلى قوتهم، وأظهرت الحامية الإسلامية ضروبا في الشجاعة وألوانا من الصبر والثبات في مقاومة الحصار ودفع هجمات الصليبيين من البر والبحر، ولكن ذلك لم يعد كافيا بعد أن انقطعت الإمدادات والاتصالات بينها وبين صلاح الدين الذي لم تنجح قواته في اختراق الحصار البري الصليبي.
ولم يعد هناك مفر من المفاوضات لتسليم المدينة، واتفق الطرفان على أن يسمح الصليبيون لحامية عكا بالخروج سالمين في مقابل فدية قدرها 200 ألف دينار، وأن يحرر المسلمون 2500 من الأسرى.
وبعد دخول الصليبيين عكا في (16 من جمادى الآخرة 587 هـ = 11 من يوليو 1191م) تجاهل ريتشارد قلب الأسد بنود الاتفاق، ونقض ما اتفق عليه؛ فقبض على المسلمين بالمدينة وكانوا نحو 3 آلاف مسلم، وقام بقتلهم في وحشية وهمجية في (27 من رجب 587 هـ 20 من أغسطس 1191م) طعنًا وضربًا بالسيف، ولم يقابل صلاح الدين الأيوبي هذا الفعلة الشنعاء بمثلها، ورفض أن يقتل من كان في يده من أسرى الصليبيين.
الاستيلاء على مدن الساحل
بدأ ريتشارد بعد سقوط عكا يعد للاستيلاء على شاطئ فلسطين من عكا إلى عسقلان، ويمني نفسه باسترداد بيت المقدس، وخاض من أجل ذلك سلسلة من الحروب مع المسلمين؛ فاستولى الصليبيون على حيفا التي أخلتها حاميتها الإسلامية، ثم على قيسارية التي خربها المسلمون حتى لا ينتفع بها الصليبيون، وفي أثناء ذلك فتح ريتشارد باب المفاوضات مع صلاح الدين، ولكنها فشلت بسبب تمسك ريتشارد بأن تعود مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قبل حطين.
ثم نشبت بين الطرفين معركة أرسوف في (15 من شعبان 587 هـ = 7 من سبتمبر 1191م)، وكاد المسلمون يحققون نصرا عظيما كما حدث في حطين، ولكن ريتشارد ثبت في المعركة، وأعاد تنظيم قواته، ونجح في تحويل دفة المعركة لصالحه، وحقق نصرا كبيرا بعث الثقة في نفوس الصليبيين بعد سلسلة الهزائم المدوية التي لحقت بهم.
بعد هذا النصر الذي حققه ريتشارد اتجه إلى بيت المقدس، وفي طريقه إليه استولى على عدد من المدن العربية مثل يافا واللد ويازور والرملة والنطرون، وأصبح على مقربة من بيت المقدس، بعد أن تحمل الصليبيون العناء في سبيل الوصول إليه.
صلح الرملة
باءت محاولات ريتشارد للاستيلاء على بيت المقدس بالفشل أمام صلابة المسلمين في الدفاع عنها، وتقوية صلاح الدين الأيوبي لاستحكاماتها، ثم لم يلبث أن دب الخلاف واشتعل النزاع بين الصليبيين، وانتهى بهم الحال إلى طلب الصلح والمفاوضة، وساعد في المسارعة إلى ذلك ورود أنباء إلى ريتشارد باستيلاء أخيه يوحنا على الحكم؛ فعزم على إجراء الصلح قبل العودة إلى بلاده.
وبعد مفاوضات شاقة عقد الصلح بين ريتشارد وصلاح الدين في (22 من شعبان 588هـ = 2 من سبتمبر 1192م)، وهو الصلح المعروف بصلح الرملة، واتفق الطرفان على أن تكون مدة الصلح ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وأن تكون المنطقة الساحلية من صور إلى يافا للصليبيين، أما عسقلان فتكون للمسلمين، في حين تكون الرملة واللد مناصفة بين المسلمين والصليبيين، ونص الاتفاق أن يعطى للمسيحيين حرية الحج إلى بيت المقدس دون مطالبتهم بأي ضريبة مقابل ذلك.
العودة إلى بلاده
قضى ريتشارد قلب الأسد في حروبه ضد المسلمين 16 شهرًا، ونجح خلالها في تقوية الصليبيين، واستردادهم لبعض المدن التي خسروها في حروبهم ضد صلاح الدين، ثم غادر عكا إلى بلاده في (شوال 588 هـ = أكتوبر 1192م)، غير أن سفينته تعرضت لرياح عاتية فرست في ميناء البندقية، واستكمل طريق العودة برًا فاعتقله "ليوبولد" دوق النمسا بالقرب من فيينا، وسلّمه إلى هنري السادس إمبراطور الدولة الرومانية فسجنه، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن دفع فدية كبيرة، وعاد إلى إنجلترا حيث تُوِّج ملكا عليها للمرة الثانية في (23 من ربيع الآخر 590 هـ 17 من إبريل 1194م)، ثم رجع إلى مقاطعة النورماندى واستقر بها، وخاض عددًا من المعارك لإنقاذ ممتلكات التاج الإنجليزي في فرنسا، ثم لم يلبث أن انتهت حياته بسبب سهم طائش أثناء حصاره لأحد حصون النبلاء في (جمادى الآخرة 595هـ = إبريل 1199م).