الشعر هو لغة القلوب ، و مرآة النفوس ، يعبر عن الخلجات الغامضة ، ويكشف عن الإحساسات الدفينة ، يخاطب الوجدان والعاطفة ، ويستلهم الوحي والخيال ، وينفذ إلي أعمق ما فى الإنسان و الطبيعة ، يقوم علي اللفظ الرشيق و التصوير الدقيق و التشبيه العميق والنغم الرقيق .
وقد أكد هذا الدكتور إبراهيم مدكور ، وقد سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره .
وقال صاحب كتاب العمدة : إن بنية الشعر من أربعة : لفظ ومعني ، ووزن وقافية ، و للشعر في الحقيقة جانبان لا وجود له بدونهما وهما : الخيال والموسيقى .
والقدرة علي قرض الشعر هي قدرة علي عيش الحياة فلن يكتب الشعر إلا كل حريص علي أن يعيش حياته وسط الناس والأحداث فيتفاعل مع الناس والأحداث ، و يجد فرحه لأفراحهم ، و يجد أيضا آلامه لأحزانهم ، و يعبر عن ذلك بالكلمة الشعرية التي تخاطب الروح .
والشاعر الكبير فاروق جويدة عشق الكلمة منذ نعومة أظافره ولذا واصل التعليم والتحق بكلية الآداب واختار قسم الصحافة وتخرج عام 1968 وبدأ حياته العملية محررا بالقسم الاقتصادي بالأهرام، ثم سكرتيراً لتحرير الأهرام ، وهو حاليا رئيس القسم الثقافي بالأهرام .
ويعد الشاعر الكبير فاروق جويدة من الأصوات الشعرية الصادقة والمميزة في حركة الشعر العربي المعاصر، نظم الكثير من ألوان الشعر ابتداء بالقصيدة العمودية وانتهاء بالمسرح الشعري .. وقدم للمكتبة العربية العديد من الدواوين والمسرحيات الشعرية .. وترجمت بعض أشعاره ومسرحياته إلى عدة لغات عالمية منها .. الإنجليزية والفرنسية والصينية واليوغوسلافية، وأعماله الإبداعية تناولتها مجموعة من الرسائل الجامعية في الجامعات المصرية والعربية .
وقد تابعت كتاباته ودواوينه ورصدت أن شعره يفيض حباً ووطنية ورؤى تستشرف المستقبل وتعتز بالماضي المجيد ، ولكم تغذينا بالحب والوطنية من منهل شعره الجميل
و مجمل القول أن الشاعر الكبير فاروق جويدة هو شاهد عصره وهو ابن هذه الأرض المصرية الطيبة ، والأرض الطيبة نباتها طيب [/size]
[size=16]اختلفت أغراض الشعر وتعددت مدارسه ومذاهبه إلا أن الشعراء باختلاف مشاربهم وأفكارهم وطروحاتهم وتطلعاتهم أجمعوا على شيء واحد هو الوطن وحب الوطن ، فكان الحنين إلى الأوطان وذكر الديار قاسماً مشتركاً بين الشعراء والأدباء ، والشعر العربي حافل بقصائد عديدة حفلت أبياتها الشعرية بحب الوطن والحنين إلى الديار والأرض فيندر أن نجد قصيدة عربية إلاّ وبها حنين إلى الوطن حتى احتل الوطن الجزء الأكبر من قصائد الشعراء مقارنة بقصائد الحب والغزل .
قال الجاحظ في رسالة الحنين إلى الأوطان: كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه.
والوطن في اللغة العربية كما جاء في لسان العرب .. هو المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله، ووطن المكان وأوطن أى : أقام متخذا إياه محلا وسكنا يقيم فيه ، فالوطن هو المكان الذي ارتبط به الإنسان، فهو مسقط الرأس، ومستقر الحياة، وسكنه روحاً وجسداً، وهام به حباً وحنيناً، فحب الوطن والالتصاق به وحب البقاء فيه من الأمور الفطرية لدى الإنسان.
ومصر .. ميمها مجد ، وصادها صفاء ، وراؤها رخاء واستقرار ، وهي كنانة الله في أرضه ، من أرادها بسوء خاب و خسر .
والمتأمل لشعر شاعرنا الكبير فاروق جويدة يجد حب مصر يسري بين شرايينه و ينبض به قلبه وقلمه .. فها هو يقول :
حملناكِ يا مصر
بين الحنايا
و بين الضلوع
و فوق الجبين
عشقناك صدراً
رعانا بدفءٍ
وان طال فينا
زمان الحنين
وفي نفس القصيدة يؤكد علي أن مصر سيبقي عبيرها بيت الغريب و سيف حق لمن لا سيف له حيث يقول :
سيبقى نشيدكْ
يضئ الطريق
علي الحائرين
سيبقى عبيرك
بيت الغريب
وسيف الضعيف
و حلم الحزين
سيبقى شبابك
رغم الليالي
ضياء يشع
علي العالمين
وفي قصيدة أخرى نجد أن شاعرنا الكبير فاروق جويدة يذكر أن مصر لو لم تكن موطنه لغرس ترابها بين وجدانه ، و نسج بين قبابها إيمانه حيث يقول :
لو لم تكن مصر العريقة
موطنى
لغرست بين ترابها
وجدانى
وسلكت درب الحب
مثل طيورها
وغدوتُ زهراً
فى ربا بستان
وجعلتُ من عطر الزمان
قلائداً
ونسجت بين قبابها إيمانى
وفى دعوة جميلة نجد شاعرنا الكبير فاروق جويدة فى قصيدة بعنوان ( عودوا إلى مصر) يقول :
عودوا إلى مصر
صدر الأم يعرفنا
مهما هجرناه
ومصر الشقيقة الكبرى لكل العرب ، وهى كعبة الأوطان .. ولذا يرسل شاعرنا المبدع تحذيراً شعرياً لكل من يدعى الزعامة .. حيث يقول :
يا سادة الأحقاد
مصر بشعبها
بترابها
بصلابة الإيمان
مصر العظيمة
سوف تبقى دائماً
فوق الخداع ..
وفوق كل جبان
مصر العظيمة
سوف تبقى دائماً
حلم الغريب
وواحة الحيران
مصر العظيمة
سوف تبقى دائماً
بين الورى فخراً
لكل زمان
يا من تريدون الزعامة ويحكم
مصر العظيمة
كعبة الأوطان
ويقدم شاعرنا توصية لكل الرفاق من أحباب مصر العزيزة فيقول :
مصر الحبيبة
يا رفاقى كعبةُُ
لا تتركوها
مرتع الأوثان
فالعمر ليس بضاعة مسلوبة
والعمر ليس بدرهم
وغوانى
وفى قصيدة أخرى يؤكد على أن الأوفياء هم درع مصر وأن شعبها هو باعث النهضة على مر الزمان .. فيقول :
سنرعى أمانيكِ
مَنْ ذا سيفدى
أمانيك يوما
سوى الأوفياءْ
سنروى ربيعك
رغم الصقيع
عبير الحنايا
وعطر الدماءْ
وشعبك يا مصر
درع الزمان
فلا تسألى غيره
فى البناء
ومصر هبة النيل والمصريين ، وعن نهر النيل الخالد .. شريان الحياة يقول شاعرنا الكبير فاروق جويدة :
يا نيل ماؤك
للوجود هداية
عاشت على درب السنين منارا
ويقول أيضا :
يا نيل فيك من الحياة
خلودها
كل الورى يفنى
وأنت الباقى
وفى قصيدة بعنوان ( وتبقى أنت يا نيل ) يقول:
مازلتَ فى العين ضوءا
لا يفارقنا
فالكل يمضى ..
وتبقى أنت يا نيل
والقضية الفلسطينية شكلت هماً من الهموم القومية التى أثارت قريحة شاعرنا الكبير فاروق جويدة فهاهو يقول :
غنيتُ للقدسِ الحبيبة أعذبَ الألحان
وانساب فوق ربوعها شعرى
يطوف على المآذن ..
والكنائس .. والجنانْ
القدس ترسم وجه ( طهَ )
والملائكُ حوله
والكون يتلو سورة (الرحمن )
القدس فى الأفق البعيد
تطلُ أحياناً وفى أحشائها
طيفُ المسيح .. وحوله الرهبان
القدس تبدو فى ثياب الحزن
قنديلاً بلا ضوء ٍ
بلا نبض ... بلا ألوانْ ..
تبكى كثيراً
كلما حانتْ صلاةُ الفجرِ
وانطفأت عيون الصبح
وانطلق المؤذن بالآذانْ
وهنا نلمح أن شاعرنا عندما كتب عن القدس جعلها كوناً حيوياً .. جمع تعاقب الأزمنة ومن هنا كان استنهاضه للأمم والشعوب لحماية القدس من عبث العابثين .
وفى قصيدة بعنوان ( لن أسلم رايتى ) نلمح تحدي و صمود كل فلسطيني من أبناء فلسطين الحبيبة .. حيث يقول شاعرنا فاروق جويدة :
قل ما أردت عن البطولة والفدا
وأكتب جميل الشعر والأبيات
لا شىء أغلى من دماء مقاتل
بالدم يكتب أروع الصفحات
والآن نرسم بالدماء طريقنا
هل بعد عطر الدم من كلمات ؟
الآن أسمعُ صوت كل شهيدة
قد زينت بدمائها راياتى
الآن أرقبُ وجه كل صغيرة
رفعت جبين القدس فى الساحات
ويقول أيضا شاعرنا الكبير :
أنا صامد فى الأرض بين ترابها
وسط النخيل .. وفى شذا الزهرات
عند الخليل وخلف غزة كلما
لاحت وفى يدها الصباح الآتى
وفى ختام القصيدة يؤكد التحدى والصمود فيقول :
أنا الصمود .. أنا الشموخ .. أنا الردى
أنا لن أسلم رايتى .. لغزاة
وفى الذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين الحبيبة قال شاعرنا الكبير فاروق جويدة فى قصيدة جاء عنوانها فى صورة تساؤل ( ماذا تبقىّ من بلاد الأنبياء ) ؟ ونقطف منها :
ماذا تبقىّ من بلاد الأنبياء ..
لا شىء غير النجمة السوداء
ترتع فى السماء
لا شىء غير مواكب القتلى
وأنات النساء
ثم يقول :
ماذا تبقىّ من بلاد الأنبياء ؟
خمسون عاماً
والحناجر تملأ الدنيا ضجيجا
ثم تبتلع الهواء ...
خمسون عاما
والفوارس تحت أقدام الخيول
تئنُّ فى كمد .. وتصرخ فى استياء
وعندما قام أرييل شارون زعيم المعارضة الإسرائيلى بزيارته المستفزة والغير مسئولة إلى المسجد الأقصى فى الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام 2000 ثار الشعب الفلسطينى وانطلقت شرارة الانتفاضة .. وفى الثلاثين من شهر سبتمبر خرج الصبى محمد البالغ من العمر 12 عاما مع والده جمال الدرة لشراء بعض الاحتياجات فإذا بجنود الاحتلال الإسرائيلى يطلقون النار عليهما فأسرع جمال الدرة بابنه نحو برميل فارغ بجانب جدار ليحميهما من وابل الطلقات النارية الإسرائيلية ولكن أصيب جمال الدرة فصرخ الصبي الصغير فزعا وطالب بالمساعدة فتحركت سيارة الإسعاف لإنقاذه ولكن جنود الاحتلال أطلقوا الرصاص علي سائق السيارة فاستشهد ثم أصيب الصبي الصغير محمد جمال الدرة بطلقات في بطنه فاستشهد بين أحضان أبيه و تصادف خلال هذا الموقف المؤلم وجود ( طلال أبو رحمة ) أحد أبناء فلسطين ومصور التليفزيون الفرنسي فألتقط هذا المشهد لحظات الاستشهاد وقام التليفزيون الفرنسي بإذاعة اللقطات عدة مرات وأهدى نسخة للتليفزيون الفلسطيني و كذلك عدة تليفزيونات عربية كما نشرت الدوريات العربية والدولية ووكالات الأنباء هذا المشهد المؤلم مما آثار غضب الضمير الإنساني و قريحة الشعراء و الكتاب وهاهو شاعرنا فاروق جويدة يقول في قصيدة بعنوان ( رسالة إلى شارون ) :
كيف اجترأت على أرض مطهرة
أسرى بها خير خلق الله والأمم
هذا التراب الذى لوثتَ جبهته
مازال يصرخ بين الناس فى ألم
ثم يقول :
محمد يا شهيد القدس يا أملاً
مازال يحبو كوجه الصبح فى الظلم
يا درة العمر يا أغلى مباهجه
أدميتنا بالأسى والحزن والسقم
فى وجهك الآن تصحو كل مئذنة
ضاقت بها الأرض بين اليأس والحلم
فى قبرك الآن بركان يحاصرنا
ويشتكى عجزنا المسكون بالنقم
يا صيحة من ضمير الحق أسكتها
صوت الضلال وكهان بلا ذمم
فى عينك الآن مصباح وأغنية
لكل طفل برىء الوجه مبتسم
فكل نقطة دم أنبتت حجرا
قد يكسر القيد أو يهوى على صنم
فاهدأ صغيرى فإن القدس عائدة
مهما تمادى جنون الموت والعدم
إن خاننى الشعر فى حزنى فلى أمل
أن يهدر الشعر كالبركان من قلمى
_________
كتاب : الحب والوطن فى شعر فاروق جويدة
للكاتب الاديب : ابراهيم خليل ابراهيم
نشر الكترونى عام 2006 وورقى عام 2008
برقم إيداع بدار الكتب والوثائق القومية المصرية 10523 / 2008