العالم العربي قي ظل الحكم العثماني
أولا: طبيعة الحكم العثماني للبلاد العربية
عملت الدولة العثمانية علي تثبيت أقدامها في المناطق التي أخضعتها من خلال نظام حكم مركزي واصح المعالم, وقد دامت هذه السيادة حتى بدايات القرن العشرين, وعلي الرغم من طول مدة السيادة العثمانية فإنها ظلت تمارس من خلال سلطة مركزية "خارج البلاد العربية" مما انعكس أثره علي بقاء أوضاع المجتمعات العربية كما هي دون تغيير جوهري وظل العثمانيون يشكلون طبقة حاكمة علي السطح كبديل لطبقة المماليك التي كانت تحكم قبلهم.
ويلاحظ أن الدولة العثمانية أرادات استرضاء بعض الشخصيات التي ساعدتها في عمليات فتوحاتها وتوسعها في المناطق العربية فعلي سبيل المثال عينت جان بردي الغزالي والياً علي الشام, وخاير بك والياً علي مصر.
وقد وضعت الدولة العثمانية علي رأس كل ولاية والٍ, وكان بعضهم برتبة وزير, وألحقت الدولة بالولايات عدد من كبار الموظفين منهم الدفتردار والكتخدا (وكيل الباشا), وقاضي القضاة, وكلهم يعينون من قبل السلطان, وقد حرصت الدولة العثمانية أن تسك العملة في سائر البلاد باسم السلطان العثماني, وإذا أردنا أن نستنتج السمات العامة للحكم العثماني فيمكن ملاحظة الخصائص والسمات الآتية:
أولا : أنه كان حكما سطحيا أي أنه كان قليل التأثير في المجتمعات العربية بل علي العكس فإن المجتمعات العربية العريقة في إسلامها وعروبتها ساهمت في صبغ الدولة العثمانية بصبغة شرقية إسلامية, فيكاد يجمع المؤرخون علي أن العثمانيون لم ينجحوا في "عثمنة أو تتريك" البلاد العربية بل أن العثمانيين هم الذين تأثروا بدرجة ما بثقافة وتراث وتقاليد البلاد العربية.
ثانيا : إن هذا الحكم فرض نوعا من "العزلة" علي العالم العربي وقد يبدو صحيحا أن العثمانيين استطاعوا حماية العالم العربي من تسلل النفوذ الغربي إليه حتى أواخر القرن الثامن عشر فقد أحاطوا الشرق العربي بسياج من العزلة حال بينه وبين الاتصال بالعالم الخارجي, وقد أثرت هذه العزلة علي الجانبين السياسي والاقتصادي بل علي سائر الجوانب الحضارية الأخرى فلم يقدر للبلاد العربية أن تتصل بالحضارة الأوربية. ثالثا : كان أسلوب الحكم العثماني مركزيا فقد حكم العثمانيين العالم العربي عن طريق الفرمانات والقرارات التي صدرها السلاطين, ويتولي تنفيذها كبار رجالهم الذين يأتون رأسا من استانبول, وقد اقتصرت وظيفة الدولة العثمانية علي مسألة الدفاع عن الولايات وممتلكاتها وحفظ الأمن ثم تحصيل الضرائب وأخيرا تحقيق العدل بين الناس من خلال أجهزة قضائية.أما وظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية فكان خارجا عن مسئولية الدولة العثمانية ويرجع المؤرخون ذلك إلي قصور العثمانيين في فهم طبيعة ومهمة الدولة ووظيفتها الاجتماعية وأن من واجبها السعي لسعادة ورفاهية المحكومين, الأمر الذي انعكس في أشكال من الفوضى السياسية والتدهور الاقتصادي للمجتمعات العربية. رابعا : تميز حكم العثمانيين أنه حكم "عسكري" أي أن رجال الحكم والإدارة كانوا من قادة الجيش, وكما كانت الدولة العثمانية تقطع الأراضي لكبار رجال الجيش لزراعتها والاستقرار فيها عوضا عن دفاع مرتباتهم. خامسا : اتسم الحكم العثماني للبلاد العربية "بالمحافظة" علي الأوضاع التي كانت قائمة قبل مجيئه, وظلت النظم والقوانين التي صدرت خلال عهدي سليم الأول وسليمان القانوني أساساً للحكم في عهود خلفائهم من السلاطين, فلم تهتم الدولة العثمانية بشكل عام لتحديث نظم الحكم والقوانين السادة مما حال دون تبني اتجاهات وأفكار جديدة في هذا الشأن. فقد تبني السلاطين العثمانيين فكرة أن أسلوب الإدارة البسيط والضرائب المستحقة تحقق مصلحة الحكام والمحكومين معا. سادسا : كانت الدولة العثمانية في أساليب إدارتها "توازن" بين أرباب السلطات فلم يمنح السلطان أحدهم سلطة مطلقة, بل جعل كل منهم رقيبا علي الآخرين, فرغم أن الوالي كان نائبا عن السلطان في ممارسة الحكم إلا أن الدولة العثمانية كانت تحد من سلطته من الناحية العلمية وتحيطه بالمراقبين والعيون, ثم ما لبثت أن قصرت مدة ولايته علي عام واحد فقط. سابعا : لقد كان فهم العثمانيين لطبيعة المجتمع ومهمة الدولة إزاءه فهماً قاصرا وضيقاً, ذلك أنهم كانوا ينظرون إلي المجتمع باعتباره يشكل طبقتين رئيستين: طبقة حاكمة من الأتراك العثمانيين, وطبقة كبيرة واسعة من المحكومين" الرعايا" التي ينبغي أن تعمل لخدمة الطبقة الحاكمة.وقد أجمع المؤرخون أن العثمانيين قد شكلوا في المجتمعات العربية طبقة ارستقراطية منغلقة علي نفسها منعزلة لم تندمج أو تنصهر اجتماعيا مع الشعوب العربية.
ثانيا: الحكام المحليون في بلاد الشام
بعد أن فتح السلطان سليم الأول مصر غادرها عائدا إلي بلاد الشام واتخذ بعض الإجراءات التي تتفق وأهمية بلاد الشام للدولة العثمانية تلك الأهمية التي تنبع من كون بلاد الشام تمثل طريقا للحجيج, وكذلك تنبع أهميتها من موقعها الاستراتيجي بالنسبة للدولة فضلا عن مواردها الاقتصادية والتجارية عللي وجه الخصوص.
وفي أعقاب هذه التطورات أعاد العثمانيون تقسيم الشام إداريا, فأصبح ينقسم في البداية إلي ثلاث ولايات تنقسم كل منها إلي عدد من السنجقيات أو الألوية وهي : 1- ولاية دمشق : وكانت تضم عشر سنجقيات منها فلسطين وصيدا وبيروت ونابلس وغزة.2- ولاية حلب وكانت تضم خمس سنجقيات تقع في شمال سوريا – 3 – ولاية طرابلس: وتضم خمس سنجقيات منها حمص وحماة.
ويلاحظ المؤرخون أن بلاد الشام قد عانت كثيرا في هذا التقسيم الذي أدي إلي تفجر الصراعات بين الزعامات والتي استغلت ضعف الدولة العثمانية وتدهور أوضاع فرق الانكشارية عسكريا, وتدخل في مسائل الإدارة, واحتدام الصراع بين قادتها وبين الولاة في بلاد الشام. في خضم هذه الأوضاع بدأت تظهر قوة الزعماء العرب المحليين, الذين كانوا قادرين علي السيطرة علي الأمور وإقرار الأمن, فاضطرت الدولة العثمانية الاستعانة بهم في تولي مقاليد الأمور في بلاد الشام.
1 - أسرة العظم في دمشق :
لقد تولي دمشق طوال القرن السادس عشر ست وأربعون واليا, لم يكمل أحدهم مدة ولايته, كذلك انتشرت فيها مع بداية القرن الثامن عشر, عمليات الفوضى والسلب مما أضعف سلطة الدولة العثمانية وما أقامته من نظم, ولم ينقذ البلاد من هذا سوى ظهور أسرة العظم التي تولي رجالها حكم ولاية دمشق ساعدوا خلالها علي تثبيت النفوذ العثماني في بلاد الشام.
وكان إسماعيل باشا العظم الأول من برز من رجال هذه الأسرة ليتولي ولاية دمشق من الدولة العثمانية لمقدرتها, فتمكن إسماعيل بما توفر له من قوة من كسب الباب العالي, وتقوية سلطته وكسب تأييد الأهالي عندما استطاع تأمين سلامة الحجيج وتوطيد الأمن, حتى ازداد نفوذ آل العظم بشكل كبير خلال هذه الفترة فبسطوا سلطتهم علي طرابلس وصيدا وامتد حكمهم إلي العريش , ومن الثابت أنهم كانوا يعتمدون في كسب رضا السلطان الباب العالي عنهم عن طريق وكيل الصدر الأعظم الذي كان سندا لهم.
غير أنهم ما لبثوا أن فقدوا هذا السند عندما أطيح بالصدر الأعظم, فضلا عن رغبة الدولة في الحصول علي بعض ثروات هذه الأسرة التي تضخمت, لذلك لجأت الدولة العثمانية إلي عزل بعض الولاة من آل العظم مما أدي إلي تدهور نفوذ الأسرة ومكانتها خلال هذه الفترة التي سبقت وفاة إسماعيل باشا.
غير أنهم ما لبثوا أن استعادوا قوتهم ومكانتهم عندما عاد مؤيدو الأسرة علي رأسهم وكيل الصدر الأعظم, فعهدت الدولة إلي سليمان باشا العظم بولاية دمشق التي تولاها مرتين خلال الفترة (1734-1743), ثم أعقبه أسعد باشا (1743-1757) .
ولم تستمر الأوضاع علي هذا النحو فلم يلبث آل العظم أن فقدوا مكانتهم لدي الباب العالي نتيجة الأوضاع التي أعقبت وفاة السلطان محمود الثاني, واستبعاد أصدقاء آل العظم من مراكز السلطة, فاستبعد آل العظم من حكم دمشق لبضع سنين, إلي أن عهد بحكمها إلي عثمان باشا الذي كان واحدا من مماليك أسعد باشا, فتولي حكمها (1761-1771) ثم فقدت الأسرة نفوذها مرة أخري لفترة قصيرة عندما تعرضت دمشق لغزو جيش مملوكي أرسله علي بك الكبير من مصر دعمه ظاهر العمر. لكن الدولة العثمانية ما لبثت أن استعادت سلطتها دمشق وعهدت بحكمها إلي محمد باشا العظم الذي تولي عشر سنوات, وبوفاته انتهي دور أسرة العظم بعد أن لعبت دورا هاما في حكم دمشق وبسطت سلطتها علي كثير من بلاد الشام لنحو ستين عاما.
2 - المعنيون والشهابيون في لبنان:
عندما استولي السلطان سليم الأول علي دمشق سارع أبرز زعماء منطقة الشوف وجبل لبنات وهو الأمير فخر الدين المعني الأول, بإعلان خضوعه للدولة العثمانية, واعترافه بسيادة السلطان الذي رحب بذلك, وثبته مع أمراء الجبل حكاما مستقلين يمارسون سلطاتهم في ظل سيادة الدولة العثمانية.
واستمر الوضع كذلك حتى تفجر الصراع بين الأمراء المعنيون وبين خصومهم من آل سيفا في طرابلس ولم ينتهي الصراع إلا بظهور شخصية قوية هو الأمير فخر الدين المعني الثاني, الذي نجح في استعادة قوة أسرته وبسط نفوذها علي إقليم الشوف, وقد أثار ذلك حفيظة ولاة دمشق العثمانيين, بل والسلطان نفسه الذي بات قلقا من قوة المعنيين. ولما كان ذلك يمثل تحديا لسلطة ولاة دمشق فقد سعي لتأمين مركزه لدي عاصمة الدولة العثمانية من خلال إيجاد وكيل مقرب من السلطان.
غير أن ذلك لم يحل دون تنبه السلطان لتزايد قوة وخطر الأمير خاصة وأن هذا قد نجح في تكوين قوة عسكرية محلية قوية,كما أنه نجح في وضع أسس دولة حديثة من خلال صلاته مع الأوربيين تجاراً وخبراء ومهندسين ,وسياسته التي اتسمت بالتسامح الديني الذي أرساه بين الدروز والموارنة .
وقد تزايدت خطورة فخر الدين الثاني أكثر عندما تحالف مع أمير كردي اغتصب حلب فأصبح هذا التحالف من جانب قوتين محليتين مهددا للوجود العثماني في الشام كله. وبات علي الدولة العثمانية أن تدافع عن هيبتها فتقدمت قواتها واستعادت حلب, في الوقت الذي تغيرت فيه الأوضاع في استانبول لغير صالح المعنيين, فلم ير الأمير بداً من الهروب هو وأسرته من لبنان وع ذلك بقيت الإمارة في عائلته حيث اعترفت الدولة العثمانية بابنه علي أميراً.
وراحت الأمور تتحسن لصالح أسرته في عاصمة الدولة وبين حاشية السلطان, كما ترك والي دمشق منصبه الذي كان عدوا لدودا له, واستطاع الأمير فخر الدين الثاني أن يكسب عفو السلطان و أن يعود إلي بلاده, ثم لم يلبث أن عاود سياسته في تقوية نفوذ أسرته حتى تمكن من بسط سلطتها علي صفط وعجلون ونابلس من خلال الرشاوى التي قدمها لكبار رجال الدولة العثمانية.
وعندما استطاع السيطرة علي الطريق بين بيروت ودمشق انزعج والي دمشق وشرع في التحالف مع خصوم المعنيين للإطاحة بالأمير, الذي استطاع التصدي لذلك عام 1623م, ثم أصدر السلطان فرمانا يقر بسلطته علي لبنان ويمنحه لقب "سلطان البر".
وقد كان انشغال الدولة العثمانية بجولة صراع جديدة مع الصفويين لاسترداد بغداد, قد أقلقها من تزايد قوة المعنيين خاصة وأن أنباء وصلت إلي السلطان تفيد بأن ثمة اتصالات للين المعنيين والصفويين, فأصدرت الدولة العثمانية أوامرها إلي والي دمشق بإعداد حملة عسكرية قوية للقضاء علي الأمير فخر الدين المعني الثاني ولم يستطع الأمير مواجهتها, وسقط هو وأبناؤه في أسري واقتيدوا إلي استانبول, حيث حكم علي الأمير بالإعدام, وتمر لبنان فترة من الضعف خلال حكم بعض أفراد الأسرة المعنية حتى فقدوا السلطة بشكل نهائي في أواخر القرن السابع عشر.
الشهابيون :في أعقاب التطورات السابقة طلبت الدولة العثمانية من أعيان لبنان ترشيح أمير لهم, فاختاروا أحد أمراء الأسرة الشهابية وهو الأمير بشير بن حسن الشهابي "بشير الأول" ثم أعقبه الأمير حيدر , وقد تمكن هذا من تقوية وتدعيم نفوذ أسرته بعد تثبيت سلطته في مواجهة خصومه المحليين,وفي عهده نزح عدد كبير من الدروز إلي جبل حوران, وعمل علي توطيد النظام الإقطاعي بمنح أنصاره الإقطاعيات ولم تتدخل الدولة في هذه الأوضاع مكتفية باعترافهم بسيادتها وخضوعهم لها
غي أن النزاعات لن تلبث أن تفجرت داخل الأسرة الشهابية ذاتها في الوقت الذي منيت فيه لبنان بانقسامات وصراعات طائفية ودينية حادة, خاصة بين الدروز والمسيحيين والمسلمين.
وفي عام 1732م تنازل حيدر عن الحكم لابنه ملحم الذي تولي الإمارة حتى عام 1754 ثم تنازل عنها ليتولاها أخوه منصور حتى عام 1770م لتعود لابن أخيه ملحم وهو الأخير يوسف حتى عام 1788م, ولم يكن لهم شخصية قوية مثل ما توفرت للأمير بشير الشهاب الثاني الذي تولي الإمارة 1788-1839م, وكان صاحب شخصية قوية استطاع جمع عناصر القوة والسلطة في يده, وقد تجاوزت سمعته جبل لبنان إلي سائر بلاد الشام, وقد أتاح للأمير أن يكون جيشا قويا وأن يطمح لإيجاد حكم مركزي في لبنان وأن يتبع سياسة استقلالية عن الدولة العثمانية فاستطاع معها بسط سيطرتها علي البقاء, والقضاء علي النظام الإقطاعي.
وقد تغاضت الدولة العثمانية عن طموحاته في البداية, نتيجة لتقديمه المعونة لها خلال صراعها مع الفرنسيين, غير أنه بتأييده فيما بعد لسياسة محمد علي والي مصر المناوئة للسلطان بدأت الدولة العثمانية في التضييق عليه والتصدي له. ونتيجة لصداقته مع محمد فقد إمارته وعزلته الدولة خلال الأحداث التي نتجت عنها معاهدة لندن عام 1840م.